للاشتراك في المدّونة، لطفاً ضع عنوانك الالكتروني هنا

الجمعة، 6 مايو 2016

تقسيم المنطقة من سايكس إلى بيترز





القارة الإسلامية تنفجر: "أي إسلام نريد"؟(4)



- الحلقة الرابعة-
لم يعد الأمر مستعصياً على الفهم:
العالم الإسلامي، بكل دوله وكياناته ومؤسساته وحركاته السياسية والفكرية، دخل في حالة حرب مع ذاته: حرب تصطرع فيها الهويات، والمفاهيم، والطموحات الامبراطورية والجيوسياسية، ويتقاطع فيها ما هو محلي مع ماهو جيوسياسي وإقليمي ودولي. هي حرب عامة وشاملة بهذا المعنى داخل الدول الإسلامية، وبين بعضها البعض.
في الحلقة الثالثة في هذه المدونة، "اليوم، غدا"، حاولنا الاجابة على السؤال التالي: هل عمليات التفكيك والتجزئة التي تشهدها بعض الأقطار العربية حاليا، والتي قد تمتد قريباً إلى تركيا وإيران وأقطار عدة أخرى، خصيصة عربية وإسلامية، أم هي جزء من ظاهرة عامة عالمية بدأت تتجلى بأبهى صورها غداة نهاية الحرب الباردة؟ بكلمات أوضح: هل هي "مؤامرة" أم حصيلة موضوعية؟ وفي حلقة اليوم، الرابعة،  سنتحدث عن احتمال وجود مخطط، أو "مؤامرة" لتفتيت المنطقة والمضاعفات المحتملة لذلك:

مارك سايكس
رالف بيترز



-         I
معطيات العولمة الراهنة التي تُفتت الدول- الامم الآن في كل أنحاء العالم، قد تدفع إلى الإسراع في الإجابة على سؤالنا الأول بالقول أن مايشهده المشرق من تفكك المفكك وتجزؤ المجزأ، ليس مؤامرة جديدة، بل هو جزء مشرقي من كلٍ عالمي؛ كلٌ تعمل فيه في الدرجة الأولى العولمة على تذرير كل الكيانات السياسية الهشة أو الضعيفة، وتسييل باقي الكيانات السياسية في دول العالم الأول الراسخة، بهدف إعادة تركيب الأوطان في سوق قرية عالمية واحدة، وتحويل المواطن إلى مستهلك اقتصادي وثقافي في هذا السوق. وهذا يتطلب (كما في الاتحاد الاوروبي) تفكيك الدول أو تقويض سيادتها، ثم دمجها في سوق إقليمي مرتبط بالسوق العالمي الجديد.
هذا صحيح، ولكن جزئياً فقط. إذ على عكس المناطق الأخرى التي تشهد سيرورة التفكيك، يتميّز المشرق بوجود مخططات غربية- إسرائيلية قديمة العهد وُضعت قبل حقبة غير قصيرة من بروز ظاهرة العولمة الأميركية كقوة تغيير عالمية، وهدفت إلى تذرير هذه المنطقة بهدف اخضاعها استراتيجياً إلى المركز الغربي، عبر منعها من بلورة كتلة إقليمية تاريخية جديدة.
كل ماهنالك أن هذه المخططات تقاطعت الآن مع خطط قوى العولمة في المرحلة التاريخية الراهنة، فبات كلً منها يتغذى من الآخر ويتعزز بقدراته وامكاناته. وهذا ماجعل المشرق مفتوحاً على التفكيك دون التركيب، في إطار حروب دائمة، معيداً بذلك تجارب حرب الثلاثين عاماً الطاحنة في أوروبا.
هل تذكرون هنا السير مايكل سايكس؟
بالتأكيد. فهو ذلك الدبلوماسي البريطاني الأشهر الذي دمغ مائة سنة من تاريخ الشرق العربي- الاسلامي الاوسط بختمه الخاص، أو بالأحرى بقلمه الخاص، الذي قسَم به المنطقة وزينًها باللونين الاحمر( حصة بريطانيا) والأزرق (حصة فرنسا) بعيد الحرب العالمية الأولى.
ذكرى سايكس هذا تنبش هذه الأيام على عجل في الغرب، جنباً إلى جنب مع فتوحات العولمة، وتحاط بهالة تكاد تقترب من القدسية. فهو "الدبلوماسي العبقري" الذي "بنى عالماً جديداً" في المشرق العربي. وهو الشاب الذي لو لم تقضِ الأنفلونزا الإسبانية  عليه سنة 1919 وهو في ريعان الشباب( 39 عاماً) ، لكان أصبح أشهر وأهم وزير خارجية في تاريخ الإمبراطورية البريطانية. ثم أنه ذلك السياسي الذي "أدخل الرؤى العميقة والخيال الرحب" إلى علم السياسة الذي أسسه نيقولو ماكيافيلي قبله بأربعة قرون. هذه الصحوة المفاجئة على عبقرية سايكس، والتي ينغمس بها بنشاط الأعلام الانغلوساكسوني والإسرائيلي، ليست بريئة. إنها كانت على الأرجح تمهيداً لإستيلاد طبعة جديدة من السير سايكس، تكون هي العنوان الجديد للتاريخ في الشرق العربي- الاسلامي الأوسط الجديد. 
من هم المرشحون لهذا الموقع الخطير؟
 هناك مرشح أبرز: الكولونيل الأميركي المتقاعد رالف بيترز، الذي كان نائب رئيس الأركان لشؤون الإستخبارات في البنتاغون، وأحد أهم الباحثين العسكريين حالياً في الدوريات الإستراتيجية والأمنية الاميركية.
هذا الكولونيل قفز فجأة من غياهب التقاعد إلى قلب الفعل، حين نشر في 10 تموز\ يوليو العام 2006 كتابه "لا تتوقفوا أبداً عن القتال"، [1] والذي تضمن خريطة "الشرق العربي- الاسلامي الاوسط الجديد"، كما فصَلها وشكَلها ولوَنها هو( تماماً كما فعل سايكس).
كان يمكن ان تبقى هذه الخريطة، ومعها الكتاب، مجرد خيال رحب لو أن مجلة القوات المسلحة الاميركية لم تنشرها، أو لو أن البنتاغون لم يقم بعرضها على إجتماع رفيع لحلف الاطلسي في بروكسل. بيد أن هذين الحدثين، مضافاً إليهما الضجة الإعلامية الكبرى التي رافقتهما، أوحيتا بأن المسألة ليست البتة إجتهادات أكاديمية، وان وراء اكمة الكتاب ما وراءها.
للتذكير، دراسة بيترز استندت إلى المحاور التالية:
-       حدود الدول الراهنة في الشرق العربي- الاسلامي الأوسط هي الأكثر تعسفاً وظلماً، جنباً إلى جنب مع حدود الدول الإفريقية التي رسمها أيضاً الأوروبيون لمصلحتهم الخاصة.
-       الحدود الجديدة المُقترحة ستحقق العدل للسكان الذين كانوا الأكثر عرضة إلى الخديعة، وهم الأكراد، والبلوش، ثم المسيحيون والبهائيون والاسماعيليون والنقشنبديون، وغيرهم من الأقليات التي تلم شملهم رابطة "الدم والإيمان".
-       إعادة رسم الحدود يتطلب تقسيم وإعادة تركيب كل دول الشرق العربي- الاسلامي الأوسط تقريباً: من الدول العربية إلى باكستان، ومن تركيا إلى إيران. وهكذا سيتم، على سبيل المثال، تقسيم إيران إلى أربع دول. وتركيا ستفقد أراض شاسعة في الأناضول. والسعودية ستصبح ثلاث أو أربع دول، وسوريا سيتم تقاسمها بين دولة مذهبية عراقية جديدة وبين "لبنان الكبير" الذي سيضم كل "ساحل فينيقيا" القديم. كما ستمنح معظم الأقليات الدينية  والعرقية إما الاستقلال أو الحكم الذاتي.
أخطر ما قالته دراسة وخريطة بيترز كمن في مالم تقله: حصة "إسرائيل" الجغرافية في الخريطة الجديدة. وهي حصة واجبة الوجود لأن الشرق العربي- الاسلامي الأوسط الجديد الذي سيرث شرق أوسط بريطانيا وفرنسا، سيكون في الدرجة الأولى أميركياً- إسرائيلياً مع تلاوين أطلسية وأوروبية، خاصة إذا ما ما تمكّ الغرب من وقف التمدد الروسي والصيني إلى المنطقة.

II-

بيد أن الوثائق الصهيونية المُبكّرة منذ مؤتمر السلام بُعيد الحرب العالمية الأولى، سبق أن أوضحت أن حدود "إسرائيل" الطبيعية تشمل إلى كل فلسطين، جنوب لبنان ومعه بالطبع نهر الليطاني، وسيناء، وأجزاء واسعة من سوريا والأردن والعراق. وأي تغيير في الخرائط لايشمل حدود "إسرائيل الكبرى" هذه، لن ير النور بسبب الدور الكبير والحاسم للحركة الصهيونية في النظام العالمي الراهن.
حين نشرت مجلة البحرية الأمريكية هذه الخريطة، سارعت وزارة الخارجية الامريكية إلى التنصل منها. لكن يبدو الآن أن رالف بيترز ليس صوتاً صادحاً في برّية قفر. إنه بالأحرى مارك سايكس جديداً، ولكن بجموح أكبر بما لايقاس. لكنه جموح له مرتكزات إديولوجية وجيو- استراتيجية قوية.
فـ"المجزرة الجغرافية"  الكبرى، إذا ما جاز التعبير، لها بالنسبة إلى الكولونيل بيترز مبرر "اخلاقي ". يقول في كتابه: "الحدود الدولية لاتستطيع أبداً أن تكون عادلة. بيد أن درجة الظلم التي تُنزلها بأولئك الذين يفصلون أو يضمون إلى حدود جديدة، تخلق فرقاً كبيراً هو نفسه الفرق بين الحرية والقمع؛ بين التسامح والفظائع؛ بين حكم القانون والإرهاب، أو حتى بين السلام والحرب".
السير سايكس أيضاً أضفى مسحة إنسانية على مجرزته الجغرافية، حين قال أن تفتيته للمنطقة العربية هدفه" إدخال هؤلاء الفقراء العرب إلى العالم الحديث ".
حصيلة خريطة سايكس كانت مائة عام من الحروب والنزاعات والجروح التي لما تندمل بعد، لأنها (الخريطة) كانت منقطعة الصلة كلياً بالواقع المشرقي، ومرتبطة طلياً بالواقع الفرنسي- البريطاني آنذاك. ومع ذلك، يعاد الإعتبار في الغرب الآن لسايكس بوصفه "بطل الرؤى الإبداعية".
المحصلة نفسها ستحدث في الغالب مع خريطة رالف بيترز: ثلاثون عاماً من الحروب والنزاعات والجروح التي لن تندمل، لكن هذه المرة على نطاق جغرافي أوسع بكثير يمتد من سواحل قزوين إلى شواطيء سوريا، مبتلعاً في طريقه كل مناطق الشرق العربي- الاسلامي العربي، آسيا الوسطى،  تركيا وإيران، آسيا الجنوبية وأفغانستان. إنها "لعبة الشطرنج الكبرى" الجديدة التي تحدث عنها زبغنيو بريجنسكي، والتي ستجد في " رؤى " بيترز أولى تطبيقاتها العملية.
لكن، هل تملك هذه الخطط مقومات ما للنجاح؟
(للحديث صلة)

سعد محيو




[1] Ralph Peters: Never Quit the Fight, March 10, 2008

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق