للاشتراك في المدّونة، لطفاً ضع عنوانك الالكتروني هنا

الثلاثاء، 3 مايو 2016

القارة الإسلامية تنفجر: "أي إسلام نريد"؟(الحلقة 2)



حروب الـ30 عاماً في أوروبا والمشرق
____
(الحلقة الثانية)


لم يعد الأمر مستعصياً على الفهم:
العالم الإسلامي، بكل دوله وكياناته ومؤسساته وحركاته السياسية والفكرية، دخل في حالة حرب مع ذاته: حرب تصطرع فيها الهويات، والمفاهيم، والطموحات الامبراطورية والجيوسياسية، ويتقاطع فيها ما هو محلي مع ماهو جيوسياسي وإقليمي ودولي. هي حرب عامة وشاملة بهذا المعنى داخل الدول الإسلامية، وبين بعضها البعض.
في الحلقة الأولى في هذه مدونة "اليوم، غدا"، تطرقنا إلى التشابه بين مايجري الآن في العالم العربي- الاسلامي، وبين ماجرى في حرب الثلاثين عاماً في أوروبا القرن السابع عشر التي دمّرت القارة وأبادت نحو نصف سكانها. وفي حلقة اليوم سنستعرض أوجه الشبه والاختلافات بينهما:


الحروب الصفوية- العثمانية





-   -I
1-  في الحروب الإسلامية الراهنة، تجري الابادات وعمليات "التطهير" والتهجير الجماعي، إضافة إلى الهجرة القسرية بسبب العنف العسكري، على قدم وساق على أساس طائفي وعرقي منذ العام 2011، وتكاد حواضر في العراق وسورية، كبغداد والموصل وشرق وشمال سورية، تخلو من تركيبتها التعددية التاريخية وتُصبح أحادية الانتماء المذهبي والطائفي. وهذا أيضاً ما حدث في أوروبا القرن 17 التي شهدت خلال حرب الثلاثين عاماً عمليات تهجير واسعة ومتبادلة بين البروتستانت والكاثوليك، أدّت في نهاية الأمر إلى إعادة رسم معظم خريطة القارة الأوروبية.
2-   التمازج بين ما هو ديني وما هو جيوسياسي، يتفاقم على إيقاع تصاعد الحروب بالواسطة في المنطقة. فكل دولة إقليمية (إيران، تركيا، السعودية، ومصر) تساند في الحروب الأهلية السورية والعراقية واليمنية والليبية الأفرقاء المحليين المتجانسين معها طائفياً أو إديولوجياً أو سياسياً بالمال والسلاح وأحياناً بوحدات عسكرية. ولا يشذ عن ذلك إسرائيل التي، وبسبب كونها هي نفسها أقلية في المشرق، تعمد إلى دعم أو التنسيق مع أقليات أخرى في المنطقة. في أوروبا أيضاَ، كانت قوى إقليمية كالسويد والدنمرك تدعم أشقائها البروتستانت في ألمانيا، فيما كانت إسبانيا تخوض الحرب إلى جانب الكاثوليك.
3-  حرب الثلاثين سنة الأوروبية كانت في أحد جوانبها صراعاً حول طبيعة ومفهوم الدين المسيحي. وحروب المشرق هي أيضاً في جانب معها معركة حول مصير الإسلام. الحروب الأهلية حول هذه المسألة هنا لاتقتصر على الصراع التاريخي المديد بين السنّة والشيعة (كما بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا)، بل أيضاً، وربما أساساً، بين  التيارات السنيّة المتعددة حيث المجابهة، على سبيل المثال، مُحتدمة بين سلفية الإخوان المسلمين والسلفيات الأخرى من وهابية وأصولية أخرى، وبين السلفيات نفسها (القاعدة وداعش، السلفية العلمية والجهادية.. ألخ)، وبين الإسلاميين الليبراليين والاسلاميين الأصوليين. وهو (الصراع) يشمل أيضاً التيارات الشيعية، في إطار الخلافات الحادة حول ولاية الفقيه، ومسألة المهدية، والاصلاح الانفتاحي أو المحافظة المتشددة.
لكن هنا أيضاً يختلط الدين بالجيوبوليتيك، حيث تتأثر الحروب الأهلية الاسلامية- الاسلامية بتراكيب الدول القطرية التي تنطلق منها التيارات الدينية. فالإخوان المسلمون في تونس والمغرب، على سبيل المثال، يختلفون عن الإخوان في مصر في توجهاتهم بسبب جهودهم للتأقلم مع طبيعة الدولة والمجتمعين القطريين فيهما. وكذا الأمر في إيران التي تختلط فيها الشيعية بالنزعة القومية الإيرانية، وفي تركيا في العلاقة الوطيدة بين النزعة السنّية والنزعة القومية الطوارنية.
في أوروبا القرن السابع عشر، أسفرت الحروب الدينية عن حصيلتين إثنتين متقاطعتين: الأولى، اضطرار القوى المتنازعة بسبب الانهاك والدمار الشامل إلى الاعتراف بأنه من المستحيل فرض مذهب أو اجتهاد ديني معيّن على الأطراف الأخرى. وهذا تجسّد في سلام وستفاليا. والثانية، وجنباً إلى جنب مع حركة الإصلاح الديني وبدء حلول الدولة القومية مكان العناية الالهية في تحقيق تطلعات الناس، مالت غالبية الشعوب الاوروبية إلى الابتعاد التدريجي عن الدين نفسه، وبرمته، إلى درجة أن معدلات الإيمان في أوروبا شهدت مسيرة انحدارية متواصلة طيلة ثلاثة قرون حتى وصلت نسبة المؤمنين في القرن العشرين إلى 2 في المئة فقط، على رغم كل جهود الكنيسة لإعادتهم إلى بيت الطاعة الديني من خلال الترهيب (عذابات جهنم) والترغيب (الخلاص والجنّة)
-   - II
هل تتكرر هاتان الحصيلتان الآن في المشرق؟
الحصيلة الأولى، أي السلام الوستفالي، تبدو محتمة في مرحلة ما (وإن من أسف بعد مرحلة دمار في الغالب) بين السنّة والشيعة. إذ سيتأكد المتعاركون في مرحلة ما أن الشيعة لن يتمكنوا من تشييع 1،2 مليار سنّي لا الآن ولا بعد ألف سنة أخرى، وأن السنّة لن يتمكنوا بعد الآن من إعادة الشيعة إلى مربّع الاضطهاد والحرمان.
لكن هذه الحصيلة المحتمة تقريباً على هذه الجبهة، لاتزال غير واضحة المعالم في الحروب الداخلية السنّية والشيعية. فالصراع على "أي إسلام نريد"، والذي استقر منذ القرن الثالث عشر لصالح القوى الأصولية وتمثّل في الجمود الشامل وإغلاق الاجتهاد (بفعل كل من الحروب الأهلية السنُية- الشيعية، وغزوات المغول وقبلهم الصليبيون، ومصالح الطبقات الحاكمة)، تجدّد بعنف وحدّة في النصف الثاني من القرن الحادي والعشرين. صحيح أن صعود الاسلام السياسي بدأ مباشرة بعد هزيمة 1967 العربية، لكنه لم يأخذ آنذاك شكل الحروب الأهلية الاسلامية، لأن التيارات الاسلامية كانت منغسمة في معارك ضد الأنظمة "العلمانية". بيد أن اندلاع الربيع العربي أشرع كل الأبواب والنوافذ أمام هذه الحروب الداخلية.
والآن، خطوط المعركة في هذه الحرب الأهلية باتت جلية. لكن، ما لم تتمكن الحركات الاسلامية من الوصول إلى شكل من أشكال الاجماع حول "أي إسلام نريد" على قاعدة التأقلم مع المتغيرات العالمية الكاسحة العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والسياسية، أي مع الحداثة ومع بعد الحداثة، ستتحوّل حرب الثلاثين عاماً الراهنة إلى حرب المائة عام. وحينها ستطل الحصيلة الثانية برأسها. لا بل الواقع أنها بدأت تطل برأسها من الآن، حيث أعداد الملحدين في بلد شديد الإيمان كمصر، كانت تشهد ارتفاعاً ملحوظاً منذ 2011 أثار قلق المؤسسات الدينية المصرية.
-   III-

نأتي الآن إلى أوجه الاختلاف.
ربما يكون وجه الاختلاف الأول والأبرز بين حربي الثلاثين في أوروبا- القرن السابع عشر ومشرق- القرن الحادي والعشرين، هو ما آلت إليه الحروب في أوروبا، وماقد تؤول إليه حروب المتوسط، على رغم أن الحربين تتشاطران بدايات مماثلة وسمات مشتركة في مجال التدمير والتهجير والابادات الجماعية.
فالحرب الأوروبية انتهت، كما رأينا، بسلام وستفاليا المؤسس لمفهوم الدولة- الأمة، الذي تحوّل لاحقاً إلى ركيزة كبرى للنظام العالمي طيلة نيّف و400 عام، قبل أن تُطل العولمة برأسها في أواخر القرن العشرين لتفرض أول تهديدات حقيقية لفكرة الدولة- الأمة.
لكن السؤال الأبرز في المشرق حول: هل سيؤدي إهراق الدم الراهن في المنطقة، والتنافسات الجيو-سياسية للإرادات بين القوى السنيّة والشيعية، وتجدد المنافسات بين الدول الكبرى في الإقليم، إلى تأسيس نظام وستفالي مشرقي، تشوبه شكوك عميقة قد تدفع فوراً إلى الإجابة بلا.
كتبت دورية "ناشنال انترست" الاميركية المحافظة:" النهاية السعيدة لصراعات الشرق العربي- الاسلامي الأوسط لبيت في الأفق. مايجري بدل ذلك هو جهنم. إنها جهنم حقا. لقد أعطى نظام وستفاليا معنى للأرواح التي أُزهقت، لكن السؤال في الشرق العربي- الاسلامي الأوسط هو ما إذا ككان يمكن إنقاذ شيء من رماد الخراب والدمار الراهنين.
لماذا هذا التباين المحتمل الفادح بين حصلات هاتين الحربين؟
الإجابة واضحة، أو أنها يُفترض كذلك: ما انفجر في وسط أوروبا ليرسم الخريطة الجديدة للدول- الأمم، هي امبراطوريات (الامبراطورية الرومانية المقدسة) وإقطاعيات كبرى. وهذا ترافق مع بدء صعود القومية والحداثة على إيقاع الاصلاح الديني والثورة العلمانية والعلمية، في حين أن ماينفجر الآن  في المشرق هو مشروع الدولة- الأمة نفسه الذي فرضته أوروبا المنتصرة منذ منتصف القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين على مستعمراتها في الهلال الخصيب، عبر سايكس بيكو، ومصر والخليج والمغرب، ثم عبر الاختيار الذاتي في تركيا- أتاتورك وإيران.
وهذا الانفجار يجري في وقت بدأ فيه مفهوم القومية نفسه يُخلي الساحة عالمياً، رويداً وبالتدريج، لمفهوم التكتلات الاقتصادية – السياسية الكبرى (على شاكلة الاتحاد الأوروبي، ونافتا، وآسيان، وصولاً إلى مشروع معاهدة شنغهاي) التي توفّر لحيتان العولمة (الشركات متعددة الجنسيات) الأسواق الموحّدة الضخمة التي تحتاج.
التأقلم مع فكرة تآكل مفهوم الدولة- القومية سيكون صعباً بما فيه الكفاية بالنسبة إلى دول- أمم على شاكلة تركيا وإيران، لكنه سيكون صعباً إلى درجة الاستحالة في أي كيانات سياسية جديدة  قد تنشأ في الخرائط الجديدة التي تُعد للمنطقة. إذ أنه سيكون مطلوباً منها، وفق شروط العولمة، أن تلفظ أنفاسها القومية المفترضة حتى وهي تشهد ولادتها بالذات. وهذا في حد ذاته قد يجعل هذه الكيانات مادة  دسمة لسخرية التاريخ.
مانقصد هنا بالكيانات الجديدة هي الدويلات الطائفية- الإثنية، التي يجري العمل في النصف الثاني من القرن الحادي والعشرين على استيلادها من رحم حروب الثلاثين سنة المشرقية الراهنة.  
بالطبع، السؤال مبرر عما إذا كانت عمليات التفكيك والتجزئة التي تشهدها بعض الأقطار العربية حاليا، والتي قد تتمتد قريباً إلى تركيا وإيران أقطار عدة أخرى ، خصيصة عربية وإسلامية، أم هي جزء من ظاهرة عامة عالمية بدأت تتجلى بأبهى صورها غداة نهاية الحرب الباردة؟ بكلمات أوضح: هل هي "مؤامرة" أم حصيلة موضوعية؟
(غدا نتابع)

سعد محيو

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق