للاشتراك في المدّونة، لطفاً ضع عنوانك الالكتروني هنا

الأحد، 8 يونيو 2014

العالم ينفجر (الحلقة الأخيرة): حذار احتراق العنقاء.. هذه المرة


- I -
تحدثنا في حلقة الأمس عن رأس العنقاء البيضاء، أي عن الوعي الكوني الجديد. ماذا الآن عن جناحيها: البيئة والنظام الاجتماعي- الاقتصادي الجديد.
في الجناح الأيمن، أي البيئة، سيكون الوعي الجديد على موعد مع انتفاضة شاملة تعيد النظر في كل مايحدث الآن في أربع صقع الأرض من تدمير منهجي للبيئة. هي انتفاضة على الحرب الذي يشنها الإنسان على الطبيعة ليس الآن بل حتى منذ بداية الحضارات البشرية المنظمة مع الثورة الزراعية قبل نحو عشرة آلاف سنة. فكما هو معلوم، أدت الثورة الزراعية إلى بدء اجتثات الغابات، وهي الرئة الرئيس التي تتنفس منها الحياة على الأرض، وضربت نظم وتوازنات بيئية احتاجت الطبيعة إلى مئات ملايين السنين لإيجادها.
ثم جاءت الثورة الصناعية لتدفع هذا اللامنطق البيئي إلى نهاياته الكارثية الحالية، حيث باتت الفلاحة غير العضوية من أكبر القطاعات التي تسهم في عملية الاحتباس الحراري. إذ تنبعث كمية غازات دفيئة أكثر من مجموع ماتطلقه السيارات والشاحنات والقطارات والطائرات مجتمعة من غازات الميثان، المنبعث من الماشية ومزارع الأرز، وأوكسيد النيتروس المنطلق من الحقول المسّمدة، وثاني أوكسيد الكربون الناتج عن إزالة الغابات المطرية لتحويلها إلى أراض زارعية أو مزارع لتربية الماشية. ثم أن الفلاحة غير العضوية هي أكبر مستنزف للموارد المائية العذبة التي باتت شحيحة على كوكب الأرض والتي هي مصدر رئيس للتلوث بسبب تصريف سوائل الأسمدة الطبيعية والسماد الطبيعي في البحيرات والوديان وسائر النظم البيئة الساحلبة الهشة في العالم.(راجع هنا العديد الأخير من "ناشنال جيوغرافيك"). 
والآن، سيصل الضغط على البيئة إلى نقطة الانفجار بسبب الحاجة إلى مضاعفة الانتاج الزراعي أضعاف أضعاف ماهو حالياً، لأن ملياري إنسان سينضمون إلى ركب الأفواه المحتاجة إلى الطعام في أفق العام 2050، ومعهم مليارات المواشي والدواجن التي تحتاج هي الأخرى إلى الغذاء وكميات هائلة من الماء. وهذا سيعني اجتثاث ماتبقى من الغابات، بعد أن أباد الجنس البشري غطاءات نباتية تناهز مساحة أميركا اللاتينية وقارة إفريقيا برمتهما ومعهما مروج أميركا اللاتينية والغابة الأطلسية في البرازيل، فيما يستمر التعدي على الغابات الاستوائية بمعدلات تنذر بالخطر الشديد. ولو أن هذا الجنون الجماعي البيئي يؤدي إلى إطعام نحو مليار جائع في العالم يترنحون الآن على شفا الموت لوُجد لهذا الجنون شيء من المبرر النسبي، لكن الحقيقة أن 50 في المئة فقط من السعرات الحرارية للمحاصيل توجُّه لإطعام الناس في الوقت الراهن، في مايوجّه الباقي إلى إطعام الماشية (نحو 36 في المئة) أو يحوّل إلى وقود حيوي ومنتجات صناعية (نحو 9 في المئة). وفي الوقت نفسه، 25 في المئة من السعرات الحرارية الغذائية في العالم ومايصل إلى 50 في المئة من الوزن الإجمالي للأغذية تضيع أو تفسد أو تُهدر قبل أن تبلغ المستهللك في البلدان الغربية. يحدث جل هذا الهدر في البيوت والمطاعم والأسواق التجارية الكبرى. وفي البلدان الفقيرة يضيع الغذاء في الغالب في مرحلة ما بين المزارع والسوق بسبب سوء وسائل التخزين والنقل.(مرجع ناشنال جيوغرافيك نفسه)
- II -
لم يصدقّ أحد العالم الاميركي جاك هول ، حين أعلن ان مناخ الارض بدأ يتغيّر بالفعل ، وأن قدر الكوارث الكبرى بدأ يطرق أبواب البشرية . بيد أن هول نفسه لم يكن يعتقد ان هذه الكوارث ستكون آنية الى هذا الحد. لكن هذا ما حدث بالفعل. فقد إرتفعت  فجأة حرارة الارض نصف درجة، وتسارع ذوبان مجالد العالم ( الكتل الضخمة من الجليد الدائم ) ، وإختل توازن تيارات المحيط. وما لبثت الامواج البحرية العملاقة (التسونامي)  ان إجتاحت كل الولايات المتحدة وكندا وأوروبا الشمالية، ثم تلاها سريعا عصر جليدي جديد قضى على الحضارة الغربية في نصف الكرة الشمالي، ودفع من نجا من الغربيين للجوء الى أميركا اللاتينية وباقي أنحاء العالم الثالث.
قصة خرافية علمية  أخرى ؟.
أجل. وهي صيغت ، كما هو معروف ، في الفيلم السينمائي " اليوم الذي سيلي الغد " الذي احدث ضجة كبرى في أميركا والعالم. لكن هذا لم يكن كل شيء. فقد برز علماء آخرون غير جاك هول ،( ليس في فيلم سينمائي بل في "فيلم حقيقي") ، ليؤكدوا  علمياً ما ساقه هول كخيال علمي. قال هؤلاء ، في دراسة نشرتها هيئة دراسات القطب الجنوبي البريطانية والمؤسسة الجيولوجية الأميركية:  "معظم مجالد شبه جزيرة القطب الجنوبي، إنحسرت بشدة خلال السنوات الخمسين الماضية بسبب إرتفاع حرارة الأرض. كما أن المجالد الداخلية تذوب بسرعة قياسية وتنحدر بوتائر خطرة نحو المحيط".
وهذا يعني، بكلمات أخرى، أنه لن يطول الوقت قبل ان يتحوّل " اليوم الذي يلي الغد" من شريط سينمائي إلى شريط واقعي.   كما هو يعني ، بكلمات أكثر وضوحاً،  صحة تحذيرات البروفسور البريطاني جيمس لافلوك المتكررة من أن كوكب الارض الغاضب  (الذي يسميه  الام " غايا " لانه يتصرف كمخلوق عضوي واحد) سيحاول قريباً  إعادة التوازن الى الطبيعة عبر تدمير الحضارة ومعظم الجنس البشري.
لماذا يحدث كل ذلك؟ لأن  جنسنا وضع نفسه في حال حرب مع الارض نفسها. ووحدها الكوارث الآن يمكن أن توقف هذه الحرب، التي يُذيب  فيها التلوث الصناعي والزراعي  البشري الاعمى المجالد، ويدّمر المناخ وتوازنات الرياح والمحيطات. العلماء البريطانيون والأميركيون يقولون الآن ان المجالد بدأت تذوب بالفعل، وأنه لن يطول الوقت قبل أن يؤدي إختلاط مياه الجليد العذبة مع مياه البحار المالحة إلى إضطراب تيارات المحيط. والحصيلة؟ إنها قد تفوق كل خيال: بريطانيا قد تتحول إلى سيبيريا جديدة. وهولندا ( أو معظمها ) ستصبح عصفاً صرصراً . وكاليفورنيا ستغدو ملعباً لأعاصير مدمّرة لن تكون امامها تسوناميات آسيا أكثر من ألعاب اطفال. وهذا كله مجرد غيض من فيض، قبل مجيء  عصر جليدي جديد.
- III -

 هذه الحرب العمياء لها جذر واضح: الأنا الأنانية البشرية، والتي تحوّلت عبر التاريخ من منظومة أنانية فكرية فردية إلى منظومات أنانية جماعية في شكل قبائل وطوائف وامم تتسابق على نهش جسد الطبيعة وتمزيقه. هذه الأنا هي التي فصلت الفرد الإنسان عن الكل الحياتي والكوني، واستندت إلى الثنائية الديكارتية القاتلة لوضع هذا الإنسان في حالة حرب دائمة مع أمه الطبيعة. وبالتالي، سيكون هناك من الآن فصاعداً سباق محموم بين بروز الوعي الصافي الجديد الذي سيعلن الصلح والسلام النهائيين مع البيئة، من خلال وضع العلم والتكنولوجيا والانتاج الصناعي والزراعي في خدمة الأولوية القصوى لتوازنات البيئة، وبين الكوارث الطبيعية الزاحفة التي ستُنهي حتماً هذه الحرب لصالح أمنا غايا. هذه الكوارث لن تدمّر الأرض بما هي كوكب آخر من كواكب المجموعة الشمسية، بل ستقضي فقط على قشرة الحياة الرقيقة التي تغطي هذا الكوكب فتجعله أرضاً قفراً مثله مثل الزهرة وعطارد والمريخ وباقي المجموعة الشمسية.
الانتفاضة على الحرب ضد الطبيعة، بهذا المعنى، هي انتفاضة على الذات الإنسانية الحالية أولاً وأخيراً. كتبت ناشنال جيوغرافيك:" الحلول (لأزمة البيئة والغذاء) لن تكون سهلة لأنها تحتاج إلى ثورة في طريقة تفكيرنا. عبر تاريخنا البشري، كثيراً ماكانت أبصارنا وبصائرنا تعمى بسبب رغبتنا الجامحة في الاستزادة من المنتجات الفلاحية بتخصيص المزيد من الأراضي للزراعة وإنتاج المزيد من المحاصيل واستهلاك المزيد من الموارد، في حين أن مانحتاجه هو إيجاد توازن بين انتاج المزيد من الأغذية وبين استدامة الكوكب (أو بالأحرى الحياة على الكوكب) للأجيال المقبلة". وهذا لايمكن أن يتم من دون انتفاضة أولاً ضد الأنا الأنانية الانفصالية، الفردية والجماعية.
من دون جناح هكذا انتفاضة على الوعي القديم التدميري، لن يكون بمقدور العنقاء البيضاء الإقلاع والولادة من جديد، وستكون اليد العليا لجماعات البيئة المتطرفين الذين يدعون إلى تدمير الجنس البشري( مرجع وهوامش وأسماء).
ماذا الأن عن الجناح الثاني للعنقاء البيضاء: النظام الاقتصادي- الاجتماعي الجديد المطلوب بإلحاح؟
يجب القول، أولاً، أن التجارب التاريخية مع الحلول الأنجع للمعضلات البشرية، الفردية منها والجماعية، والتي انتجت كل هذه الجهنمات على الأرض، كانت تتعثر لأنها كانت في الدرجة الأولى نتاج فكر متعثر ومجزأ ومقسَّم. فالمثاليون حاولوا حصر الحلول على المستوى الفكري منذ الفلسفة الإغريقية إلى هيغل، أو الروحية البحت ( الفلسفات الشرقية والصوفية والأديان على أنواعها) أو السايكولوجية (علم النفس الغربي الحديث، ماعدا علم النفس النقدي). والماديون حصروا الحلول على المستوى السياسي (التيارات الماكيافيلية) أو الاقتصادي (الرأسمالية والاشتراكية الستالينية)، فأسقطوا من الاعتبار المهمة الحاسمة المتعلقة بتطوير الوعي والروح الكُليين لدى الفرد والجماعات في كل المجالات الثقافية والتعليمية والفكرية والسايكولوجية.
كما أن كلا الطرفين معاً (ماعدا التيارات الأدبية الرومانسية) أسقطت من هذه الحلول ضرورة إعادة النظر بعلاقة البشر مع أمنا الطبيعة، وبالتالي ساهمت تطبيقاتهما العملية في الدمار الراهن والشامل الذي لحق بالبيئة.
لكن يتبين الآن في ضوء مرحلة الأزمة الوجودية الكبرى التي تعيشها البشرية أن الاعتماد على الحلول الفردية وحدها من دون تغيير البنى والهياكل الاقتصادية- الاجتماعية التي تستند إليها الأنا الأنانية وتترعرع فيها، هو حرث في البحر ويحتاج إلى آلاف السنين كي يؤت ثمره، هذا إذا ما آتى ثماره على الإطلاق. وبالمثل، فأن تغيير البنى والهياكل الاقتصادية والاجتماعية من دون تطوير الوعي وإطلاق القوى الروحية لدى الفرد والجماعات، لن يؤدي سوى إلى الاستبداد على أنواعه الاشتراكي كما الرأسمالي وسوى إلى مواصلة الحرب البشرية الانتحارية على البيئة.
وبالتالي، إنتفاضة العنقاء البيضاء على الأنا الأنانية ودمار البيئة، يجب أن تترافق وتُستكمل مع انتفاضة على الهياكل الاقتصادية- الاجتماعية الراهنة التي تتغذى منها الأنا الانانية.
وفي حال تكامل بناء رأس العتقاء البيضاء مع تشكيل جناحيها: الثورتان البيئية والاقتصادية - الاجتماعية، فسيتمكن هذا الطائر الأسطوري من التحليق لينقذ الجنس البشري والحياة على الأرض. اما إذا فشلت عملية البناء، فستحترق العنقاء، لكن هذه المرة من دون ولادة جديدة.
(انتهى)
سعد محيو

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق