للاشتراك في المدّونة، لطفاً ضع عنوانك الالكتروني هنا

الأربعاء، 7 مايو 2014

من سورية إلى أوكرانيا: أين "نهاية التاريخ والجيوسياسة"؟






- I -
كيف نفهم مايجري الآن بين روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في أوكرانيا؟ وبين الصين واليابان في المحيط الهاديء؟ وبين روسيا والصين وإيران وبين الغرب في سورية والشرق الأوسط؟ وأخيراً بين الهند والصين وأميركا وروسيا في آسيا الجنوبية والوسطى؟
هذه الأسئلة مهمة لسببين: الأول أن هذه ليست صراعات اقتصادية أو إديولوجية، بل جيو- سياسية وجيو- استراتيجية في معظمها. ومثل هذه الصراعات كان يُفترض أنها اختفت بعد سقوط الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي وبزوغ عهد العولمة الليبرالية الكاسح، رسمياً، في أوائل تسعينيات القرن العشرين. كما كان يفترض أن الشكل الجديد للصراعات الدولية سيتخذ شكل التعاون/التنافس الاقتصاديين فقط، في إطار قوانين العولمة المثبتة في منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
هذا كان معنى نظرية "نهاية التاريخ" التي أطلقها المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما، والتي استندت إلى الفكرة بأن سقوط الإديولوجيا الشيوعية وانتصار إديولوجيا الرأسمالية (والديمقراطية) الليبرالية، أنهى ديالكتيك صراع الأفكار لصالح هذه الأخيرة.
فوكوياما استعار هذا التعبير من الفيلسوف الألماني هيغل الذي استخدمه في أوائل القرن التاسع عشر على النحو التالي: "نجاح نابليون بونابرت في السحق الكامل للجيش البروسي في معركة جينا الخاطفة العام 1806، أسدل الستار على حرب الأفكار، وجسّد انتصار الثورة الفرنسية على أفضل جيش أعدته أوروبا ماقبل الثورات. وهذا دق أجراس نهاية التاريخ، لأنه في المستقبل (كما شدَّد هيغل) وحدها الدول التي تتبنّى مباديء فرنسا الثورية وتقنياتها ستكون قادرة على المنافسة والبقاء على قيد الحياة.
وبالمثل، اعتبر فوكوياما ان انتصار الرأسمالية الليبرالية على الشيوعية السوفييتية أفرز ليس فقط نهاية الصراع الإديولوجي بل أيضاً الصراعات الجيو-سياسية، وأفسح في المجال واسعاً أمام ولادة العولمة الرأسمالية الليبرالية و"القرية العالمية الواحدة". ولذا، أي دولة تريد المنافسة والبقاء، عليها الالتزام بقواعد الرأسمالية الليبرالية المنتصرة.
 وهذا رأي أيّده حتى بعض اليساريين الماركسيين، مثل نيغري وهاردت اللذين وضعا مؤلفاً ضخماً تحت عنوان "الامبراطورية"، أي امبراطورية العولمة، قالا فيه أن انتصار الرأسمالية انهى الحروب بين الامبرياليات (أي الحروب الجيو- سياسية) في العالم، وأن الثورة أو الحركة الانقلابية الحاصلة على صعيد الانتاج الرأسمالي المعاصر وعلاقات القوة العالمية الراهنة، ستمكِّن المشروع الرأسمالي من الجمع بين السلطتين الاقتصادية والسياسية، أي من تحقيق نظام رأسمالي خالص وحقيقي.
وهذه أيضاً نهاية للتاريخ.
- II -
لكن، وبعد تفاقم الأزمات التي تشبه صراعات القرن التاسع عشر الجغرافية (على حد تعبير جون كيري) في أوروبا والمحيط الهاديء- آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا، بدأ المحللون الغربيون، وبأعداد متزايدة، يعيدون النظر بنظرية نهاية تاريخ الصراعات الجيو-سياسية.
على رأس هؤلاء المفكر الاستراتيجي الأميركي وولتر رسل ميد، الذي نشر هذا الأسبوع دراسة مهمة في دورية "فورين أفيرز" حمل العنوان المثير "عودة الجيو-سياسية " ( The return of Geopolitics).
الأفكار الرئيس في الدراسة:
- العام 2014 كان سنة مضطربة وصاخبة للغاية، اجتاحت فيها الصراعات الجيوسياسية مجدداً المسارح الرئيسة في العالم: من سيطرة روسيا على جزيرة القرم إلى مطالب الصين العدوانية في المياه الساحلية ورد اليابان على ذلك من خلال استراتيجية قومية صارمة، إلى استخدام إيران لتحالفاتها مع سورية وحزب الله للسيطرة على الشرق الاوسط. وهكذا، فإن الطراز القديم للقوة أطل برأسه مجدداً في العلاقات الدولية.
- الولايات المتحدة وأوروبا تعتبران هذه التطورات مقلقة وتفضلان القفز فوق مسائل الأراضي والقوة العسكرية الجيوسياسيتين، لصالح تحرير التجارة والحوكمة والنظام العالمييين ومنع انتشار الأسلحة النووية وحقوق الإنسان وتغيُّر المناخ..ألخ. وبالتالي، الانجرار مجدداً إلى بؤر هذا الطراز القديم من الصراعات، من شأنه أن يغيّر طابع السياسات الدولية الراهنة.
- لكن الغربيين (كما إدارة أوباما) أخطأوا في قراءتهم للتاريخ: فالانتصار الإديولوجي للرأسمالية الليبرالية لم يعن انتفاء او اختفاء القوة الصلدة، ولاصراعات الحدود ولاضرورة القواعد العسكرية ومناطق النفوذ، إذ أن الصين وروسيا وإيران لم تقبل أبداً التسوية الجيو-سياسية التي تلت الحرب الباردة، وهي تبذل بشكل مطرد جهوداً حثيثة وقوية لقلبها. وهذه العملية لن تكون سلمية. وسواء نجح المراجعون ام لها، فأن جهودهم قد هزَّت بالفعل موازين القوى وغيّرت ديناميكيات السياسات الدولية.
- صحيح أن الاختلافات عميقة بين هذه الدول الثلاث (روسيا تخشى صعود الصين، وروسيا وإيران لهما، على عكس الصين، مصلحة في رفع أسعار النفط واللااستقرار في الشرق الأوسط). ومع ذلك، الأطراف الثلاثة تتفق على أمر واحد: ضرورة تغيير الأمر الواقع الراهن. فروسيا تريد إعادة تجميع الاتحاد السوفييتي( قسّمت جورجيا، ودفعت أرمينيا إلى فلكها، وأحكمت قبضتها على القرم، ودخلت إلى أوكرانيا). والصين لاتنوي مواصلة لعب دور ثانوي في الشؤون العالمية ولاقبول السيطرة الأميركية على آسيا. وإيران تريد تغيير النظام الإقليمي الراهن في الشرق الأوسط. أميركا عقبة أمام كل هذه المشاريع التي بدأت بالفعل تقوِّض النظام الجيوسياسي لما بعد الحرب الباردة.
- الرؤساء الأميركيون خسروا حرية الحركة في مايتعلق بتعميق النظام الليبرالي، وهم سيكونون من الآن فصاعداً أكثر اهتماماً بانقاذ الأسس الجيوسياسية لهذا النظام.
- وأخيرا، صحيح أن مد التاريخ يسير بخط لارجعة عنه إلى الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية وأن الشمس ربما تغيب بالفعل خلف التلال، لكن في روسيا والصين وإيران لاتزال شمس التاريخ تسطع هناك.
- III -
منطق مقنع؟
سنحاول الرد على هذا السؤال في حلقات مقبلة. لكن، قبل ذلك، وفي سبيل تسليط الضوء على أنماط تفكير وتخطيطات الدول الكبرى في حقبة مابعد "نهاية التاريخ"، فلنستعرض معاً أولاً استراتيجيات الأمن القومي في كلٍ من هذه الدول، لنرى ماذا إذا كانت متطابقة أو متسقة أم لا مع "نهاية  التاريخ".

(غدا نتابع)
سعد محيو


  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق