للاشتراك في المدّونة، لطفاً ضع عنوانك الالكتروني هنا

الخميس، 31 يناير 2013

السعودية والخليج والربيع العربي: "الثورة المضادة" الثانية (الحلقة الأولى)



)
- I -
السؤال الأبرز الذي طُرِح غداة اندلاع ثورات الربيع العربي كان: كيف ستتأثر منطقة الخليج العربي، أنظمة وشعوباً، بهذا الربيع.
لكن الآن، بعد مرور سنتين نجحت خلالها أنظمة الخليج في "شراء" رضا بعض مواطينها عبر الشيكات النفطية الضخمة، وبعد أن بقيت مطالب المواطن الخليجي (عدا المواطنيَن البحريني والكويتي) بالمشاركة والديمقراطية في سماء الانترنت الفضائية ولما تنزل بعد إلى أرض الواقع، فقد آن الأوان لعكس السؤال كي نقول: كيف ستؤثر أنظمة الخليج على الربيع العربي.

ناصر والحداثة: الثورة المضادة السعودية الاولى (الصورة من غوغل

السؤال الجديد في غاية الأهمية بالطبع، لأن هذه الأنظمة الغنية تمتلك البترودولارات التي تمكّنها من ممارسة نفوذ كبير على دول الربيع الفقيرة، عدا ليبيا، سواء من خلال تقديم يد العون إلى الحكومات الجديدة المعُوزة، أو عبر تمويل على نمط "A la cart"  (وفق الاختيار والمزاج) للقوى الإسلامية التي تعتبر حليفة لها وخصمة لغيرها (قطر للإخوان المسلمين، والسعودية للسلفيين)، أو عبر تقديم نفسها على أنها المتبرع الأول كما حدث في مؤتمر المانحين الأخير لسوريا.
سيث جونز، المدير المساعد لمركز الأمن الدولية وسياسة الدفاع في مؤسسة راند، تقدّم الصفوف لمحاولة الإجابة على هذا السؤال، في دراسة نشرتها مؤخراً دورية "فورين أفيرز" النافذة (عدد يناير/فبراير 2003)، على النحو التالي:
- الملكية السعودية أحكمت قبضتها على السلطة بعد الربيع العربي واستخدمت سطوتها المالية لتعزيز الأنظمة الأوتوقراطية المجاورة، كما فعلت مع البحرين في شباط/فبراير لقمع انتفاضة شعبية بذريعة أن دوافعها مذهبية.
- لكن في الواقع، ما كان يخشاه النظام السعودي وبقية أنظمة الخليج هو مطالب المتظاهرين بأن تصبح البحرين ملكية دستورية.
- ملكيات الخليج، التي لاتبدي قط أي ارتياح للربيع العربي، تماماً كما كانت مع القومية العربية قبل نصف قرن، تقوم مرة أخرى بـ"ثورة مضادة" كانت أزهى تمظهراتها عرض ضم الملكيتين الأردنية والمغربية إلى مجلس التعاون الخليجي.
- وهي الآن تنفق بسخاء كبير على أجهزة الأمن لديها، وتقوم في الوقت نفسه بشراء ولاء القواعد الشعبية الرئيس في بلادها.
- II -
تعبير "الثورة المضادة" الذي استخدمه سيث جونز يبدو في محله تماما. وكذا الأمر بالنسبة إلى تشبيهه الثورة المضادة الراهنة، بتلك التي شنتها دول الخليج بزعامة السعودية ضد مشروع الحداثة الذي أطلقته حركة القومية العربية الناصرية في الخمسينيات والستينيات، بهدف بناء اقتصاد انتاجي حديث وهوية مواطنية عربية موحدة لاعشائرية ولاطائفية.
في كلا هاتين الثورتين  المضادتين، كان الهدف واحدا: الدفاع عن أمن وسلامة أنظمة الحكم الملكية الفردية والعائلية والتقليدية (أو الرجعية وفق تعبير جمال عبد الناصر) عبر الهجوم على بديلها العروبي الحديث.
آنذاك، هبّت الرياح الدولية والإقليمية كما تشتهي سفن الثورة المضادة السعودية، فوقفت أميركا، أضخم قوة حديثة وديمقراطية في التاريخ، إلى جانب السعودية، أضخم قوة تقليدية ولاديمقراطية في التاريخ، ضد مصر الناصرية،(ما عدا أسابيع قليلة إبان عهد جون كينيدي)، بسبب الحرب الباردة؛ ثم أكملت إسرائيل المهمة بتدمير مصر في حرب 1967.
والآن، تسعى الثورة المضادة السعودية الجديدة إلى تقويض عمليات الانتقال إلى الديمقراطية في دول الربيع العربي، على رغم أن من يتزعم هذه العمليات هم حلفاؤها السابقون في الحرب على الحداثة القومية الناصرية: الإخوان المسلمون. لكن بالطبع، الإديولوجيا في الشرق الإسلامي، كما في كل التاريخ الإسلامي برمته، تملك ولاتحكم. من يحكم هو المُتغلّب القبيلي أو العسكري أو السياسي الذي يضع عربة الدين في خدمة جياد السلطة المطلقة.
- III -

لكن، هل ينجح مجلس التعاون الخليجي بقيادة السعودية في ثورته المضادة الثانية كما نجح في الأولى؟ وهل الظروف الدولية والإقليمية، وكذا الظروف المحلية، ستكون مؤاتية لهما كما في الخمسينيات والستينيات؟
 (غدا نتابع)

سعد محيو



الأربعاء، 30 يناير 2013

انقلابات على جبهتي "الجهاد" و"الحروب الصليبية"


الجهاد والحروب الصليبية: انقلاب المفاهيم( اللوحة من غوغل


- I -

ثمة تحوّل كبير طرأ على مفهوم "الجهاد" الإسلامي ( وكذلك على مفهوم الحروب الصليبية الغربي، كما سنرى بعد قليل)، منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، يكمن في تحوّل الجهاديين من مقاتلة الأجانب أساساً إلى قتال أبناء جلدتهم المسلمين.
هذه الظاهرة واضحة في كل مكان: من القاعدة في المغرب الإسلامي إلى القاعدة في شبه الجزيرة العربية، ومن الجهاديين السلفيين في سورية والعراق إلى زملائهم في أفغانستان وباكستان وجنوب شرق آسيا.
السبب الرئيس لهذه النقلة هو بروز "فرص عمل" للتطرف الأصولي في الدول التي تتضعضع فيه سلطة الدولة بفعل الثورات. لكن يبدو أن هناك سبباً آخر لايقل أهمية
يكمن في التغيّر الذي بدأ يطرأ مؤخراً في كل من العالمين الإسلامي والغربي على مفهومي الجهاد والحروب الصليبية، اللذين يعتبران السبب الرئيس لـ" صدام الحضارات"، واللذين ارتديا على مدى 1300 سنة مصطلحات تعج بالسلبيات.
من أوائل من بادر إلى تعديل معنى تعبير " الجهاد "، كان الكاتب الأميركي بنجامين باربر . قال ،  في كتابه " الجهاد ضد ماكوورلد "   
" Jihad vs Mcworld : terrorism's challenge to democracy
 أن ما يعنيه بتعبير الجهاد هو " الصدام بين قوى التفكك القبلي والأصولية الرجعية التي اطلقت عليها إسم الجهاد ( الأسلام هنا لاعلاقة له بذلكـ على حد قوله ) وبين قوى التحديث  المتطرفة والعدوانية والعولمة الثقافية التي أطلقت عليها إسم ماكوورلد ".
باربر وفق هذا المفهوم يضع المحافظين الجدد، جنباً إلى جنب مع أصوليين مسيحيين اميركيين مثل جيري فولويل، في الخانة نفسها التي يضع فيها " الجهاديين ". وهذا بالطبع يبرؤه كلياً من تهمة الدعوة إلى صدام الحضارات التي يدينها هو  أصلاً بشدة بوصفها " تقليداً ممسوخاً للّغة الخلاصية لأسامة بن لادن التي تدعو بالتحديد  إلى مثل هذه الحرب ".
 لكن ، وعلى رغم ذلك، لا يمكن للمتطرفين العنفيين إلا ان يرحبوا بهذه التسمية بسبب المضامين المفاهيمية والتاريخية المرتبطة بها.
اما إصطلاح الحرب الصليبية، فقلة من الغرب تعي ما يثيره إستخدام هذا  التعبير إيجابياً في الغرب من خيالات دموية جامحة في الذهن الشرقي الأسلامي. من هذه القلة الكاتبة البريطانية  كارين أرمسترونغ التي كانت راهبة، والتي كتبت في مقدمة  كتابها المثير  الحرب المقدسة "   Holy war ) ): " .. وأنا أعرف أنه خلال هذه الحروب المقدسة، كان المسيحيون قد أهرقوا الكثير من دماء المسلمين. وهذا كان أمراً وحشياً وشريراً وجامحاً. لقد كنت أفترض أنه في  عصرنا المتنور تقدمنا إلى ما بعد مثل هذه البربرية القاسية ، لكن ألاحظ  كم نستخدم مراراً تعبير " الحرب الصليبية "  في إطار مضمون إيجابي " .
وبعدها تصل أرمسترونغ إلى سؤال وجودي- ثقافي مثير : " هل يمكن أن فكرة الحرب الصليبية ، وعلى رغم كل إداناتنا للحروب المقدسة القروسطية،  تجد قبولاً ما على مستوى ما من  عقولنا ؟ " .
- II -

حسناً . هذا سؤال يجب أن يجيب عليه الغربيون أنفسهم . لكن في الشرق، وخارج إطار دوائر الأصوليات الأسلامية المتطرفة وداخل التيار الأسلامي العام ، يبدو أنه حدثت بالفعل نقلة نوعية كبرى حيال مفهوم " الجهاد " لم تقابلها خطوة مماثلة في الغرب حيال مفهوم الحرب الصليبية . نقلة تجّرد عملياً " الجهاد " من بعده العسكري او العنفي وتضعه في مجال الفضاء الروحي او الاجتماعي، مُسقطة بذلك ثنائية الجهاد- الحروب الصليبية التي دشنت رسمياً في 25 تشرين الثاني 1095 حين إستدعى البابا أوربان الثاني في مؤتمر كليرمونت أول حملة صليبية ضد الشرق.
لا بل أكثر : ثمة قادة إسلاميون بارزون كالعلامة الراحل محمد حسين فضل الله ، يعتبر أن " الجهاد قد إنتهى ". يقول: " مسألة الجهاد او الحروب الصليبية إنطلقت من خلال موازين قوى . والان،  الجهاد الأسلامي إنتهى، وكذلك الحروب الصليبية بمضمونها الديني إنتهت أيضاً . صحيح أن الحروب الصليبية إنطلقت من فتوى بابوية ، لكن الذين إستغلوا هذه الحروب لم ينطلقوا من موقع ديني. هناك الأن حروب صليبية إستكبارية وإستعمارية، كما هناك بين المسلمين من يتحدث بإسم الجهاد لكن ليقاتل المسلمين اكثر من غيرهم ويكفرهم ".
فضل الله يريد من الغرب أن يقنتع بان الجهاد والحرب الصليبية لايجب أن يشكلا عقبة في وجه حوار الحضارات بينه وبين الأسلام . لماذا ؟ " لاننا في العالم الأسلامي نعتبر أن الحروب الصليبية التي وجدت في مرحلة زمنية معينة، إنتهت بكل مفاعيلها ومؤثراتها ، ولم تعد تمثل عقدة لدى المسلمين " .
اما بالنسبة إلى مفهوم  الجهاد  فيعتبر هذا العلامة،  الذي وُضع لفترة على لائحة الأرهاب في الغرب وجرت محاولة في منتصف الثمانينيات لأغتياله بسيارة ملغومة ، أن الغرب " حمّل هذا المفهوم ما لا يحتمل، لان الجهاد في الأسلام بقاعدته الوقائية والدفاعية لايختلف عن أي حرب يثيرها أي فريق في العالم. الأسلام لا يؤمن بالعدوان على الناس ويمنع أتباعه من الاعتداء على المدنيين المسالمين " .
- III -

منطق مقنع ؟ ربما. لكن، هل ثمة من يقتنع به لدى المنظمات  الرئيسة في التيار الرئيس الأسلامي ؟
الرد قد يكون مفاجئاً : نعم . فالأخوان المسلمون في مصر ، وهم أكبر وأوسع تنظيم أصولي إسلامي في العالم، يكررون، على سبيل المثال، القول دوماً أنهم يعتبرون الجهاد ذاتياً ودفاعياً .
 هذه المواقف والمعطيات تشي بأن حوار الحضارات بين الغرب والأسلام ممكن وسهل وواقعي، طالما أنه قادر على الخروج من ورطة ثنائية الجهاد والحروب الصلييبة. وهذا على مستوى الأفكار والمفاهيم كما على  جبهة القلوب والعقول.
لكن ، هل هذا الحوار ممكن أيضاً في مجال الأستراتيجيات ؟.
هنا قد تبدو الصعوبات كبيرة ، بسبب التظلمات الكبيرة التي يبديها العالم العربي- الأسلامي من السياسات الغربية .
يقول  د. أحمد موصللي ، أستاذ التاريخ في الجامعة الاميركية في بيروت والمتخصص بدراسة حزب الله الشيعي وجماعات إسلامية سنّية، : " ثمة خلل في التوازن بين الحضارتين الأسلامية والغربية، سببه عدم التوافق على مفهوم الحوار. فكلمات الرئيس الاميركي السابق بوش بأنه " من لا يقف معنا فهو ضدنا "، تعني أنه لامجال للحوار. وإذا تصادف ونشأ حوار، سيكون مبتوراً لان شروطه الموضوعية غير متكافئة  بل وغير موجودة  ".
وثمة نقطة اخرى يلحظها موصللي : العالم الأسلامي مبعثر ولايزال يبحث عن ذاته من خلال نظارات غربية. فكيف يمكن ، والحال هذه ، أن ينشأ حوار حضارات مثمر ؟ .
هذه المعطيات تعني أن ثمة ضياعاً سياسياً وإستراتيجياً ومصلحياً على ضفاف الشرق الأوسط الكبير. وعلى رغم ان هذا الضياع مفصول حتى الان  عن صدام الحضارات وحروبها، إلا ان إستمراره قد يقود في لحظة ما إلى تحقيق نبوءة ( والبعض يقول رغبة ) برنارد لويس وتلميذه صموئيل هانتينغتون في  التشابك بين ما هو إستراتيجي وما هو حضاري ، وبالتالي إلى  إندلاع حروب الجهاد والحملات الصليبية ، مجدداً .
لكن من الآن وحتى أمد غير منظور، يبدو أن مفهوم الجهاد سيكون محصوراً في جماعات التطرف الأصولي وسيقتصر في برامجهم الجديدة على قتال "الكفار المحليين". وهذا سيكون انتصاراً مجلجلاً للرئيس الأميركي السابق بوش الذي أعلن العام 2002: "إننا سننقل الحرب إلى عقر دار العدو في العالم الإسلامي".

سعد محيو
___________________________________________________



 

                                                                                                             


 


  





















الثلاثاء، 29 يناير 2013

القرد الإيراني بعيون سعودية وخليجية



-I-
كيف يبدو القرد، الذي يقال أن إيران أرسلته إلى مدار الأرض، من منطقة الخليج العربي؟
أنه، ببساطة، يبدو تهديداً مقيماً للأمن القومي لدول المنطقة، وليس تعزيزاً مهماً للحضارة الإسلامية المتشركة بين العرب والإيرانيين.
القرد الإيراني في الفضاء: انحاز أم تهديد؟( الصورة من غوغل
والسبب معروف.
فالعرب الخليجيون، أو العديدون منهم على الأقل، لن يقرأوا هذا الحدث المفترض من فوق السطور كما هو، أي بصفته حدثاً علمياً إسلامياً بارزاً يشبه نجاح طهران قبل نحو خمس سنوات في وضع قمر صناعي في المدار، بل سيطلون عليه من تحت السطور بكونه خطوة عسكرية أخرى نحو تطوير الصواريخ البالستية الإيرانية.
وهذه حقيقة مؤسفة يجب أن يُسأل عنها بالدرجة الأولى النظامان السعودي والإيراني، اللذان فشلا طيلة نيف و30 سنة في بلورة ولو خطة بدائية لإقامة نظام إمني إقليمي، ينهي مسلسل الحروب المتصلة والمدمرة في الخليج ((حرب كل عشر سنوات تقريباً مع خسائر بشرية بالملايين ومادية بالتريليونات)، ويعيد بناء الحضارة الإسلامية على أسس جديدة.
لماذا هذا الفشل؟
-II-

الأسباب تبدو عديدة:
- مذهبية كلا هذين النظامين السياسيين، الأمر الذي يزركش سياستهما الخارجية بحتمية صراعية- استقطابية تصل أحياناً إلى مرحلة التهديد الوجودي (وهذا ماتفعله على أي حال "الهويات القاتلة" المغلقة)؛  
- الصراع الأعمى على سراب نفوذ إقليمي، فيما المستفيد الأول من هذا الصراع هي الدول الكبرى التي تتحكم بكل شاردة وواردة في المنطقة، ومعها شركات الأسلحة العملاقة (من أميركية وروسية وأوروبية) التي تبدو أكثر من سعيدة بمنجم الذهب الدائم هذا في المنطقة؛ وإسرائيل التي سمح لها هذا التنافس بأن تكون شريكاً مضارباً مباشراً في أمن الخليج.
- بيد أن الأهم من هذا وذاك هو قصر النظر لدى القيادتين الإيرانية والسعودية. أجل قصر النظر، على رغم أن الكثيرين قد يستهجنون وضع عربة علم النفس أمام جياد الإيديولوجيات والاستراتيجيات.
فلو أن هاتين القيادتين مارستا بُعد النظر قليلاً، لاكتشفتا سريعاً ما اكتشفه الأوروبيون غداة الحرب العالمية الثانية، وهو أن تقاتل ذئبين على قطعة لحم واحدة يؤدي غالباً إلى نفق الذئبين، فيما تعود قطعة اللحم إلى مفترس آخر يقبع بحبور منتظراً نهاية حفل الدم الماجن هذا.
بُعد النظر الأوروبي، الذي امتلكه ومارسه آباء مؤسسون على غرار مونيه وشومان وآديناور وتشرشل، أسفر ليس فقط عن وضع حد لعربدة الحروب المدمرة، بل مهّد الطريق أمام احتمال بروز أوروبا كقوة عظمى جديدة. ولو أن هذه المزية وجدت في منطقة الخليج، لكانت هذه المنطقة الآن نواة عودة هائلة للحضارة العباسية العربية- الفارسية التي جعلت الإسلام أول وأضخم قوة حداثة في العالم قبل بروز الحضارة الغربية.
تخيّلوا المشهد: خطط اقتصادية متكاملة بين ضفتي الخليج تحوّل هذا الأخير إلى بحيرة صناعية وتجارية وزراعية غنّاء، بدل أن يكون بحراً متلاطماً من السفن الحربية ومنصات الصواريخ والجيوش الجرارة التي تعيد انتاج الدمار الشامل كل عقد من الزمن.
تخيلوا أكثر: بدل تنافس العرب والفرس على تقسيم دول المنطقة وتقاسم عنب رؤوه في حلب، يتم العمل على اتحاد إسلامي واحد يُطلق كل الطاقات التكنولوجية والانتاجية والفكرية من عقالها ويحوّل الخليج إلى قلب نابض لعالم إسلامي نابض.
بالطبع، هذه تبدو أضغاث أحلام. وهذا صحيح.  لكن، حين نتذكّر أي كابوس تعيش المنطقة الآن، وعلى أي برميل بارود مشتعل تقبع، سندرك أن الأحلام بأضغاثها خطوة لازبة ولابد منها للخروج من هذا الكابوس. لولا أحلام مونيه لما كانت فرنسا وألمانيا أدارتا ظهرهما لماضيهما الدامي ويممتا وجههما إلى مستقبل زاهر ومسالم. ولولا أحلام شومان لما قيِّض لأوروبا أن تخرج من كابوسها التاريخي.
-III-
لقد تساءلنا في البداية: كيف بدا القرد الإيراني في المدار من منطقة الخلبج العربي.
لكن ربما كان الأصح أن نتساءل: كيف رأى هذا القرد المنطقة من فوق. ألن يتمم قردنا قائلاً: يا لهم من مجانين أولاد عمومتنا هؤلاء؟!

سعد محيو


الاثنين، 28 يناير 2013

مصر تتمخّض بثورة جديدة، أو حتى ثورات


انفلات العنف في السويس قبل أيام(الصورة من غوغل

- I -
ثمة حقيقة كبرى كشفت عنها أعمال العنف الأخيرة في بور سعيد والسويس والاسماعلية والقاهرة:
الدولة المصرية، بمؤسساتها، وهيبتها، وأدوارها، ناهيك بشرعيتها، انهارت أو تكاد؛ والمجتمع المصري بطبقاته الوسطى والفقيرة وطفرة الشباب الديمغرافية الكاسحة فيه (أي الغالبية الكاسحة من الـ90 مليون مصري)، لم يعد قابلاً للحكم لاوفق صيغ الجمهوريات السابقة ولا الملكية، ولا الآن مع صيغة سلطة الإخوان المسلمين.
فهذا المجتمع أسقط حاجز الخوف من الفرعون، المُتجسِّد رمزياً في مراكز الأمن والشرطة التي تُحرق مع كل مظاهرة، وأسقط معه إمكانية تعايشه مع المفهوم القديم للدولة، حتى ولو أضفى عليه الإسلاميون كل تلاوين الشرع وأحكام الشريعة وبريق "الاسلام هو الحل".
كتب مايكل حنا، من مركز الأبحاث الأميركي "سينتشري فاونداشن"(فايننشال تايمز/27-1-2013): "بعد الثورة، كان ثمة فرصة لإصلاح النظام، الأمر الذي تطلّب تضامناً سياسياً. بيد أن مثل هذا التضامن سرعان ما تفكك بعد سقوط مبارك. والآن ثمة أزمة سياسية وشرعية الدولة تلاشت".
- II -
إن الإشارة إلى فرضية أن المجتمع في وادٍ والدولة في وادٍ آخر، قد توحي بشىء من التبرير والتبرئة للأخوان المسلمين، لأنها تعني أن هؤلاء ليسوا هم من خلق هذه الأزمة- الفجوة الخطيرة. لكن الواقع ليس على هذا النحو، إذ أن هذه الجماعة لم تدرك حجم ومدى الزلزال الذي حدث في ثورة 25 يناير، واعتقدت (ولاتزال) أن في وسعها نقل البلاد من الثورة إلى الاستقرار عبر  إعادة انتاج الدولة نفسها مع تعديلات "إخوانية" عليها.
بيد أن هذا يثبت الآن أنه هدف مستحيل. فالخيار الحقيقي في مصر هو الآن بين أحد أمرين: إما إقامة دولة جديدة وعادلة وتنموية-انتاجية تلبي مطالب وتطلعات الغالبية الكاسحة من الناس، أو اللادولة والفوضى والحرب الأهلية؛ إما وفاق وطني يستند إلى تسوية تاريخية وعقد اجتماعي جديدين بين كل مكونات المجتمع المصري، أو الدخول رسمياً في مرحلة الدولة الفاشلة والانهيار الاجتماعي.
بالطبع، هناك دوماً الخيار الثالث المُتمثِّل في انقضاض القوات المسلحة على السلطة مجددا، تحت شعار انقاذ البلاد من الفوضى. بيد أن هذا الاحتمال القوي لن يسوي الأمور، لأن القيادة العسكرية ستقع هي الاخرى في فخ الحقيقة التي أشرنا إليها أعلاه: انهيار صيغة الدولة المصرية القديمة، واستحالة إعادة البناء على أساسها.
لكن، إذا ماواصلت جماعة الإخوان المسلمين تخبطها الذي يشبه السباحة في حوض لاماء فيه، وإذا ما استمرت معارضة جبهة الانقاذ الوطني التركيز على مطالب "انتهازية" (تتعلق أساساً بحصتها من مقاعد البرلمان) بدل طرح برنامج إعادة بناء وطني شامل، فمن يمكنه القيام بمهمة بناء دولة جديدة قادرة وحدها على انقاذ البلاد، عبر برنامج انتاجي اقتصادي يركّز على الصناعة والزراعة، وبيروقراطية نظيفة وكفؤة وفعّالة، ودستور وطني جامع؟
لايبدو، من أسف، أن مثل هذه القوى متوافرة حاليا. وهي إن كانت موجودة فبصوت ضعيف يكاد لايسمع، وبتأثير محدود للغاية على ديناميكيات التغيير الراهنة في البلاد.
وهذا الآن ماسيضع عملية الانتقال إلى الديمقراطية في مهب الريح، ويشرع الأبواب والنوافذ أمام احتمال اندلاع ثورة جديدة، أو حتى سلسلة ثورات في داخل ثورة واحدة، تتسم بالعنف الطبقي والفوضى الاجتماعية وحتى بالنزاعات المسلحة (السلاح يتدفق الآن على مصر من كل حدب وصوب).
والأرجح أن هذا ماسيحدث حتماً إذا ما فشلت نخب الموالاة والمعارضة في صك العقد الاجتماعي الجديد وفي تحديد ملامح الدولة الجديدة. وحينها، سيكون عنف الشارع هو القابلة القانونية الوحيدة لدولة مصرية جديدة.

سعد محيو



الأحد، 27 يناير 2013

ما سر صعود" جبهة النصرة"؟
 حروب الأيديولوجيا والإستخبارات في الشرق الأوسط


- جبهة النصرة: إديولوجيا ومخابرات؟الصورة من غوغل 
- I -
ما سر تنظيم  "جبهة النصرة" في سورية ؟ من يقف وراءه، أو امامه؟ وكيف يمكن لحركة عنفية سياسية حديثة العهد ان تولد قوية على هذا النحو، فيقفز عددها خلال أشهر قليلة من 50 عنصراً إلى مابين 5000 إلى  10000؟
الإجتهادات هنا تعدد بتعدد المصادر.
فخصوم أميركا من الإيرانييين إلى السوريين في المنطقة، أضفوا على هذه الحركة من البداية سمة إيديولوجية جهادية بحتة. ثم أنهم بعد ان تبرأوا من أي علاقة بها بعد ظهورها، أنحوا باللائمة على السياسة الغربية في سورية والعراق وأفغانستان وفلسطين، وأيضاً على الدعم السعودي والقطري للأصوليين الإسلاميين،  لنشأة مثل هذه التنظيمات.
هذا الرأي إستند إلى تبرير مفاده أن " جبهة النصرة " وغيرها من الحركات العنفية المتطرفة، تكفِّر كل من كان من غير أهل السَنة وأيضاً من كان من غير تيارها حتى بين السنّة، وهي تجهر بأنها تنوي أعمال السيف في رقابهم تمهيداً لإقامة إمارات وممالك إسلامية جديدة. وبالتالي، من غير المنطقي أن تعمد دمشق او طهران إلى تزويد من ينوي حفر قبرهما، بالمعاول اللازمة لذلك.
في المقابل،  خصوم سوريا وإيران أكدوا ان " جبهة النصرة " وأشباهها من التنظميات، من إختراع هاتين الأخيرتين من الألف إلى الياء. الدلائل؟ إنها( برأي الخصوم) ، كثيرة:
1-   ولادة التنظيم قبل نحو أشهر في سوريا تحت تسميات مختلفة بما في ذلك " جند الشام " وفتح الاسلام وغيرهما.
2-   وجود سوابق على دعم كل من دمشق وطهران للتنظيمات السنَية العنفية، خاصة غداة الغزو الاميركي للعراق العام 2003. وهكذا يقال الأن أن الثانية كانت تمَول وترعى وتستقبل على أراضيها عناصر عدة من تنظيم " القاعدة " العاملة في العراق التي قاتلت ضد الأميركيين، إضافة إلى تنظيمات سنَية عدة أخرى. وكذا كانت فعل دمشق. وتبعاً لذلك، لا يستغرب أن يكون الطرفان متورطين في هذه الظاهرة الجديدة.
3-    رغبة النظام السوري منذ بداية الانتفاضة في تحويل الثورة الشعبية إلى مجابهة طائفية- مذهبية. ولذا، عمل منذ البداية أيضاَ على منح التكفيريين حرية الدخول والخروج والعمل في البلاد بهدف تعزيز وجودهم وتقوية شوكتهم.

- II -


أي الطرفين الأقرب إلى الصحة؟
كلاهما!
لكن ، كيف يمكن لوجهتي نظر متناقضتين لبعضهما البعض ان تكونا على حق آن ؟
السبب بسيط: الجميع في الشرق الأوسط بلا إستثناء يلعب هذه الأيام ورقة التنظيمات الأرهابية أو المتطرفة.
وهذه ليست لعبة جديدة. وللتذكير: الإستخبارات الاميركية كانت وراء نشأة عشرات التنظيمات اليسارية المتطرفة في حقبة الستينيات والسبعينيات، والتي كانت شعارتها المعلنة تدعو إلى " ثورة اممية عالمية ضد الأمبرياليتين الاميركية والسوفييتية". وقد تكشف لاحقاً انها كانت أداة في يد واشنطن لتشويه سمعة اليسار وزعزعة الإتحاد السوفييتي. وكذا الامر في الثمانينيات حين رعت الولايات المتحدة، بدعم عربي، قيام النواة الاولى لتنظيم " القاعدة " في أفغانستان.
وبالمثل، يؤكد جون كولي في كتابه الشهير " الحرب غير المقدسة "، وبالوثائق، أن إيران تدعم الكثير من التنظيمات المتطرفة في شتى انحاء العالم، بغض النظر عن إيديولوجية هذه التنظيمات وتوجهاتها. وعلى أي حال، حرب الرهائن التي شنتها طهران على واشنطن منذ اللحظة الاولى لإنتصار الثورة الإسلامية في أواخر السبيعنيات، كانت تستلزم في الدرجة الاولى إقامة تنظيمات سرية متطرفة للقيام بمثل هذه العمليات.
ماذا يعني كل ذلك؟
أنه يعني، بوضوح، أن ما ما جري الان في سورية ليس في محصلته النهائية سوى حرب إستخبارية بوسائل أخرى. هذا لا يعني ان عناصر " جبهة النصرة " ربما يكونون مشبعين بالفعل بالإيديولوجيات المغلقة التي تحفزهم على الإنتحار. قد يكونون كذلك. لكنهم حتماً لا يدرون أنهم مجرد اداة لتحقيق أهداف أخرى لا علاقة لها البتة بإيديولوجيتهم الخاصة.
المناخ العام في الشرق الاوسط يشجع على تفريخ مثل هذه التنظيمات. واجهزة الأستخبار الدولية والأقليمية جاهزة اكثر من أي طرف آخر ل " إستثمار"  الظاهرة حتى الثمالة. وهي ، بالمناسبة، ثمالة طويلة الامد.
فأغلب الظن ان ظاهرة العنف الإنتحاري ستبقى معنا طويلاً.  وهذا بالطبع، على عكس رأي العديد من المستشرقين والخبراء الغربيين، الذين " تنبأوا " قبل فترة بقرب إنحسار هذه الظاهرة.
الأسباب باتت معروفة: حالة الإكتئاب العامة التي تسود المنطقة العربية، والتي تدفع أمة بأسرها إلى " الحلول الإنتحارية"، على حد تعبير محمد حسنين هيكل؛ الإجتياحات العسكرية والامنية الغربية التي أعادت إلى الأذهان صورة الإستعمار القديم؛ وأخيراً، الكساد الإقتصادي- الإجتماعي الكبير في كل الشرق الأوسط العربي تقريباً، والذي يدفع الشباب إما  إلى المنافي أو إلى التكفير والهجرة.
هذه العوامل غير مرشحة لان تزول قريباً، بفعل غياب التخطيط وسيادة التخبط في معظم الدول العربية. وهذا يعني ان محصلاتها ونتائجها لن تزول قريباً أيضاً، وفي مقدمها العنف الإنتحاري.
الأمر شبيه إلى حد كبير بحقبة الحروب الصليبية التي شهدت ولادة ظاهرة الحشاشين. هذه الفرقة الإسماعيلية إستندت، كما هو معروف، إلى اليأس الذي ساد شباب ذلك العصر من تدهور الأوضاع في الشرق الاوسط الإسلامي، وطوَرت عقيدة  دينية ممزوجة بالحشيش كانت تعد مريديها بالجنة الفورية إذا ما نفذوا عمليات إنتحارية.
ظاهرة الحشاشين إستمرت زهاء قرنين، ولم تنحسر إلا بعد أن برزت في قلب الشرق قوة إمبراطورية إسلامية جديدة( الدولة العثمانية) أعادت الإستقرار إلى البلاد والعباد.
العنف الإنتحاري الراهن له متشابهات حديثة أيضاً. ففي اواخر القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين، برزت الحركة الفوضوية الماركسية الأوروبية التي رفضت كل انواع السلطة،  ودفعت عناصرها إلى تنفيذ اعمال إرهاب إنتحارية واسعة النطاق ضد رموز الدولة( السلطة السياسية)  والمجتمع( السلطة الأبوية) كافة .
كذلك، في ستينيات القرن العشرين شهد العالم موجة من التطرف الإنتحاري اليساري  جسَدته منظمات مثل " الألوية الحمراء" ، و " الدرب المضيء "، و " التوباماروس "، التي دفعها اليأس من قدرة الأنظمة الإشتراكية آنذاك على تحقيق الجنة الشيوعية على الأرض إلى محاولة إستيلادها بقوة الأرهاب.
ظاهرة التطرف الإنتحاري الإسلاموي، إذاً، ليست جديدة لا في التاريخ الإسلامي ولا غير الإسلامي. إنها، إذا ما جاز التعبير ، حركة " طبيعية " تنتجها ظروف"  طبيعية" ، وإن إستثنائية. وهي ستبقى طالما بقيت هذه الظروف.
- III -

الأسئلة حول تنظيم " جبهة النصرة " ونشأته ومن يقف وراءه، لا تزال معلقة في الهواء من دون إجابات شافية. وطالما استمر هذا الوضع، فهذا سيعني أن القوى والظروف المحلية والأقليمية والدولية التي أنجبت هذا التنظيم، ستنجب العديد مثله خدمة لمصالحها المتضاربة في الشرق الاوسط. وكل ذلك تحت لواء الشعارات الأيديولوجية في العلن، والإستخبارية في السر.

سعد محيو

السبت، 26 يناير 2013

أنت أنا يا أخي...


اعتقاد البشر أنهم مخلوقات فردية منفصلة ومستقلة هو مجرد وهم كبير لايمكن أن يؤدي سوى إلى صراعات ونزاعات لانهاية له، وهو الذي خلق هذه الأيام السلسلة المتنامية من الأزمات الاجتماعية والبيئية والوجودية الكبرى، وهو الذي  أفرز كوارث التلوث وسخونة المناخ ودمار توازنات الطبيعة".

- I -

أشرنا بالأمس في هذه الزاوية(اليوم، غداً، 25-1-2013) إلى أن تجربة عالم الفيزياء ألان اسبينكت، الذي اكتشف هو وفريقه أنه في ظروف مُعيّنة تكون الجزيئيات ماقبل الذرية قادرة على التواصل الفوري مع بعضها البعض، بغض النظر عن المسافة التي تفصل بينها، سواء أكانت على بعد 10 أمتار أو 10 بلايين متر، أثارت ضجة كبرى في الأوساط العلمية.
من فيلم أفاتار(الصورة من غوغل
وهذا كأن أمراً متوقعاً. إذ أن هذه التجربة خرقت مبدأ أينشتاين الذي ينص على أنه لا اتصالات يمكن ان تجري بأسرع من سرعة الضوء (300 ألف كيلومتر في الثانية). ولذلك عجز العلماء عن تفسير هذه الظاهرة.
وحده ديفيد بوهم كان جريئاً بما فيه الكفاية ليُعلن أن سلوك الجزيئيات يشبه تماماً تجربة السمكة في الأكواريوم التي أوردناها أمس. فما نراه ليس جزيئيات عديدة لاحصر لها، بل جزءٌ واحد أو كلٌّ واحد، في إطار هولوغرام واحد يحتوي على كل شيء وعلى كل المعلومات في الكون. الكل موجود في كل جزء.
بالطبع، هذه النظرية تتناقض تناقضاً بيّناً مع مباديء العلم الغربي الحديث، الذي يعتبر أن أفضل وسيلة لفهم الظواهر المادية هي تقطيع أوصالها إلى أجزاء ودراستها كوحدات منفصلة. بيد أن تقطيع الهولوغرام لايؤدي سوى إلى أجزاء تتضمن الكل، مهما صغر حجم هذه الأجزاء.
ويعتقد بوهم أن الجزيئيات ماقبل الذرية تستطيع البقاء على اتصال وتواصل مع بعضها البعض لا لأنها تُرسل إشارات أسرع من الضوء، بل لان الانفصال في ما بينها مجرد وهم. ففي مستوى أعمق من الحقيقة، هذه الجزيئيات ليست كيانات فردية منفصلة بل هي في الحقيقة امتدادات للشيء الأساسي نفسه.
يقول بوهم:  إننا نرى الأشياء، على غرار الجزيئيات مادون الذرية منفصلة، لأننا لانرى سوى جزء من حقيقتها. فهذه الجزيئيات ليست "أطرافاً" منفصلة بل أوجهاً من وحدة كامنة هولوغرامية أعمق  لاتنقسم كما الوردة".
 وبما أن كل شيء في الحقيقة المادية يتكوّن من اطياف وأشباح (أي وهم)، فإن الكون نفسه ليس أجزاء منفصلة بل كلاً واحداً. قرية واحدة، بكلمات أوضح، على رغم بلايين المجرات فيه. كما أن هذا الكون يتضمن سمات مذهلة أخرى: فالالكترونات في ذرة الكربون الموجودة في دماغنا البشري، ترتبط بالجزئيات دون الذرية الموجودة في كل سمكة تسبح وفي كل قلب ينبض وفي كل نجم يلمع. كل شيء يخترق كل شيء. الكل شبكة واحدة متصلة.
وفي هذا الكون الهولوغرامي، حتى الزمان والمكان والماضي والحاضر والمستقبل كلها توجد في وقت واحد. وبالتالي، امكانية رؤية الماضي والمستقبل ستكون ممكنة حين يُطوّر الإنسان التكنولوجيات المتطورة اللازمة لذلك.
عالم الاعصاب كارل بريبرام أثبت هو الأخر هذه الفكرة، حين قطع دماغ الجرذ إلى أجزاء، فاكتشف أنه في كل جزء منها بقيت الذكريات موجودة في نبضات عصبية تنتقل عبر كل الدماغ، كما اللايزر في صورة الوردة.
هذه الاكتشافات كان يفترض أن تقود إلى ثورة في العلوم الإنسانية، شبيهة بتلك التي اطلقتها نظرية داروين في التطور التي أفرزت كماً واسعاً من العلوم الاجتماعية والاقتصادية والسايكولوجية، مثل "الداروينية الاجتماعية"، والليبرالية الاقتصادية المستندة إلى فرضية "الجينة الأنانية" الرأسمالية الموجودة لدى كل إنسان.
لكن، لماذا لم يحدث الأمر نفسه مع اكتشافات بوهم وزملائه؟
- II -

لسبب واضح: نظرية بوهم تصيب من الرأسمالية مقتلاً. فهي بنفيها الوجود الفردي والانفصال بين البشر وبين كل الموجودات، كانت تدعو عملياً إلى إلغاء النظام الرأسمالي التنافسي (حرب الجميع على الجميع) وإحلال نظام تعاوني ديموقراطي-روحاني مكانه؟
 ولم يكن غريباً بعد ذلك على أي حال، أن تشن السلطات الأميركية على بوهم حملات عنيفة تتهمه بالانتماء إلى الشيوعية، ما اضطره في نهاية المطاف إلى الهجرة إلى بريطانيا والاستقرار فيها.
كتب بوهم:" اعتقاد البشر أنهم مخلوقات فردية منفصلة ومستقلة هو مجرد وهم كبير لايمكن أن يؤدي سوى إلى صراعات ونزاعات لانهاية لها. وفي الواقع، محاولة العيش وفقاً للفكرة بأن الأجزاء هي حقائق منفصلة هو ماخلق هذه الأيام السلسلة المتنامية من الأزمات الاجتماعية والبيئية والوجودية الكبرى، وهو ما أفرز كوارث التلوث وسخونة المناخ ودمار توازنات الطبيعة".
العالم اللافردي الذي يدعو إليه صاحبنا الفيزيائي الذي كان مساعداً لألبرت أينشتاين وفارق الحياة العام 1992، يستند إلى الأفكار الرئيسة التالية:
- وحدة الوجود (PANTHEISM) التي تؤمن بها العديد من المدارس "التجاوزية" في كل الأديان، والتي تعتبر أن الوجود برمته وحدة متكاملة يتصل بها الجزء بالكل والكل بالجزء، مادة وروحاً، مهما كان نوعهم أو شكلهم، وسواء أكانوا إنساناً أونباتاً أوحيواناً أوحتى جمادا.

-       علم فيزياء الكم(QUANTUM PHYSICS) الذي أكد نظرية وحدة الوجود، حين أثبت أن أجزاء الكون، من أصغر كوارتس إلى أكبر مجرّة، مترابطة مع بعضها البعض في شبكة واحدة لاتتجزأ.
-       الفلسفة الصوفية التي تعتبر أن التواصل مع العناية الإلهية ممكن فقط عبر التواصل الروحي والحدس، لاعبر العقل الذي لايستطيع سوى إدراك العالم المادي الظاهر.
-       الفلسفة البيئية والإيكولوجية التي ترفض اعتبار الطبيعة عنصراً ميتاً أو جامداً يجب استغلاله وإخضاعه بكل القوة والعنف الممكنين، وتطل عليها بوصفها كياناً حيّاً وأمّاً رؤوماً. وهذا ما عبّرت عنه أشعار الهنود الحمر الجميلة الذين رفضوا حرث الأرض قائلين:" كيف تريدون مني أن أبقر بطن أمي ؟
-       فيلم أفاتار الشهير تأثّر إلى حد كبير بأفكار بوهم. فجنس النافي في الفيلم يُجسّدون كل هذه المباديء مجتمعة. فهم مُتوحدون ومتحدون كلياً مع الطبيعة، خاصة مع الأشجار التي يُقدّسونها لأنه لا حياة بشرية أو غير بشرية من دونها. ثم أن كل شيء في قمر باندورا الذي يقطنونه متصل ببعضه البعض في وحدة روحية رائعة، تتجسّد في  الغابات البكر التي تًشع أنوارها وتتفجر ألوانها بكل الجمالات، والتي يعيش فيها وعليها النافي من دون حاجة إلى ناطحات السحاب وغابات الأسمنت.

- III -

ماذا إذا؟
هل سنواصل اعتبار الكون (ومعه الوجود) أشبه بحجر صلد يجب تدميره أو اخضاعه بالقوة، أم أننا سنطل عليه بحب وحنو على أنه هولوغرام واحد رائع؟
الخيار هنا هو بين الوهم والحقيقة، وأيضاً بين بقاء الجنس البشري والحياة نفسها على الأرض، أو الانقراص.
 فلنقم بهذا الخيار، والآن.

                                                                                سعد محيو



                                                                                 


الجمعة، 25 يناير 2013

الحقيقة وهم، والماضي والحاضر والمستقبل سراب!

الأصدقاء: وقع خطأ مطبعي "نبيذي" في مقال الامس حول البحرين في الصفحة الأولى: بدلاً من "نبيذ جديد في زجاجات قديمة" الصحيح هو "نبيذ قديم في زجاجات جديدة"، فاقتضى التنويه(وشكراً للأستاذ محمد جاسم الذي لفتنا إلى ذلك).
--------------
الكل في الجزء، الجزء في الكل(الصورة من غوغل


- I -
التعبير جميل بما فيه الكفاية: ثورة الاتصالات الثالثة حوّلت العالم إلى قرية واحدة.
لكن، ماذا لو كان الكون كله، او الوجود كله، قرية واحدة أو حتى ذرة وخلية واحدة؟ ألن تكون الصورة أجمل بما لايقاس؟.
هذه الفكرة انبثقت حين تسنى لنا إعادة قراءة أعمال العالم الفيزيائي ديفيد بوهم، الذي قد يكون واحداً من قلة في التاريخ توصلت إلى الحقيقة بأنه لاحقيقة موضوعية في العالم المادي الذي فيه نعيش، بل نحن غاطسون في وهم داخل وهم.
التشبيه الذي قدّمه بوهم لتوضيح نظريته كان التالي:
"تخيّل أن هناك حوض سمك (أكواريوم) فيه سمكة واحدة فقط. وتخيّل أيضاً أنك لاتستطيع أن ترى الاكواريوم مباشرة، بل فقط عبر كاميرتين تلفزيونيتين الأولى مثبّتة قبالة الأكواريوم والثاني إلى جانبه. حين تحدق بشاشتي التلفزيونيين ستعتقد أن هناك سمكتين قادرتين على التواصل في ما بينهما لأنهما تتحركان بشكل مماثل تقريباً. فحين تستدير أحداهما تقوم الأخرى باستدارة مماثلة وإن مختلفة قليلاً (بسبب اختلاف زاويتي الكاميرتين). وإذا لم تُدرك الصورة الكاملة لما يجري في الأكواريوم، فقد تستنتج أن ثمة سمكة تتصل بشكل فوري وآني بسمكة أخرى. لكن هذه ليست الحقيقة بالطبع.
بعد هذا المثل البسيط، يصدح بوهم بالرأي المُعقّد والخطير: الحقيقة الموضوعية لاوجود لها. وعلى رغم مانراه من كونٍ يبدو صلداً، إلا انه في الحقيقة وهم كبير. إنه ليس إلا "هولوغرام" واحد يتضمن كل شيء وكل الاحتمالات.
الهولوغرام، كما هو معروف، صورة ثلاثية الأبعاد يتم صنعها بواسطة اللايزر. وعجائبيتها لاتكمن في هذا البعد الثلاثي وحده، بل في أن كل قسم منها مهما صغُر حجمه يتضمن الصورة الكاملة. فإذا ماكانت الصورة لوردة، مثلاً، فإن قيامنا بقطع الصورة إلى نصفين لن يعطينا نصف وردة كما في الصور العادية بل وردة كاملة. وهذا الوضع سيستمر حتى لو قطعنا الصورة إلى فتات صغيرة بحجم الميليمتر، إذ سيتضمن كل جزء منها صورة الوردة كلها.
- II -

بوهم يُشبّه الكون بصورة الهولوغرام هذه . فهو يُطلق على الكون وصف "الكون الهولوغرامي"، حيث أن كل جزء فيه يتضمن الكل، وحيث حتى الماضي والحاضر والمستقبل، كما المكان، موجودون كلهم في "إناء واحد" كالأكواريوم، ويتصلون ببعضهم البعض اتصالاً لافكاك فيه.
مانراه من أنا وأنت وهُم، مجرد وهم. وكل الأجزاء في الكون ماهي إلا وهم يخلقه تفسير خلايا دماغنا البشري المولع بتقسيم الأشياء وتجزئتها. فالكل موجود في الجزء، والجزء موجود في الكل.
نظرية بوهم هذه حظيت بدعم ثمين مع فيزيائي آخر هو ألان اسبينكت، الذي أجرى مايمكن وصفه بأنه أهم اكتشاف في أواخر القرن العشرين، قمين بتغيير وجه العلم برمته. فقد اكتشف هو وفريقه أنه في ظروف مُعيّنة تكون الجزئيات ماقبل الذرية قادرة على التواصل الفوري مع بعضها البعض، بغض النظر عن المسافة التي تفصل بينها. فلا يهم ماإذا كانت الجزيئيات على بعد 10 أمتار أو 10 بلايين متر، إذ أن كل جزيء فيها يبدو دوماً أنه يعرف ماذا تفعل الأجزاء الأخرى.
هذه التجربة  أثارت جدلاً كبيراً في الأوساط العلمية، لكن محصلاتها صبّت في النهاية في مصلحة كون بوهم الهولوغرامي.
كيف؟

                                                                                سعد محيو